جدا على وحدانيته تعالى (لِلْعالِمِينَ) أي : ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم ، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، [يونس : ٢٤] وقرأ حفص وحده بكسر اللام.
ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلبا للرزق كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على القدرة والعلم (مَنامُكُمْ) أي : نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعا (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قيلولة (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية ، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيرا ما يكسب الإنسان بالليل ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف ، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعارا بأنّ كلّا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ـ ١١] وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وقوله تعالى (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).
تنبيه : قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة ، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل (لَآياتٍ) عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.
تنبيه : قال هنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) وقال تعالى من قبل (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وقال تعالى (لِلْعالِمِينَ) لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى ، فلم يقل آيات للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم ، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة ، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه ، وأما قوله تعالى (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة ، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظيم قدرته (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) أي : إراءتكم له على هيئآت وكيفيات