(وَمِنْ آياتِهِ) أي : على ذلك (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) أي : لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليهالسلام (أَزْواجاً) إناثا هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن ، قال البقاعي : والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي : فخلق حواء من ضلع آدم (لِتَسْكُنُوا) مائلين (إِلَيْها) بالشهوة والألفة من قولهم : سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه ، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها ، قال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] ويدل عليه قوله تعالى (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي : لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه.
ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى (وَجَعَلَ) أي : صير بسبب الخلق على هذه الصفة (بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي : معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه (وَرَحْمَةً) أي : معنى يحمل كلّا على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر ، وقيل : المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكا بقوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم ، ٢] وقوله تعالى : (وَرَحْمَةً مِنَّا) [مريم ، ٢١] (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) أي : الدالة على ذلك (خَلْقُ السَّماواتِ) على علوها وإحكامها (وَالْأَرْضِ) على اتساعها وإتقانها ، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها.
ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي : لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما ، ونغماتكم وهيآتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة (وَ) اختلاف (أَلْوانِكُمْ) من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليهالسلام ، والحكمة في ذلك : أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه ، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه ، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور ، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات ، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته ، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما ، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد ، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون.
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات