بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار : «بأن العير تقدم في يوم كذا يقدمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك» وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة (فَما) أي : تسبب أنه ما (كانَ اللهُ) أي : على ما لهم من أوصاف الكمال مريدا (لِيَظْلِمَهُمْ) بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالما بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات (وَلكِنْ كانُوا) بغاية جهدهم (أَنْفُسَهُمْ) أي : خاصة (يَظْلِمُونَ) أي : يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) أي : آخر أمر (الَّذِينَ أَساؤُا) وقوله تعالى (السُّواى) تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى ، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها ، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل : السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، وإساءتهم (أَنْ) أي : بأن (كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي : القرآن. وقيل : تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى (أَنْ كَذَّبُوا) أي : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب ، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله (وَكانُوا بِها) مع كونها أبعد شيء عن الهزء (يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين.
ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى : (اللهُ) أي : المحيط علما وقدرة (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : خلقهم بعد موتهم أحياء ، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء فيجزيهم بأعمالهم ، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي : إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب ، وحسا بعد قيام الساعة ، وهي أبلغ من القراءة الأولى ؛ لأنها أنص على المقصود.
ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي : يسكت المشركون لانقطاع حجتهم ، فالإبلاس أن يبقى يائسا ساكتا متحيرا. يقال : ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي : التي لا ترغو ، وقال مجاهد : مفتضحون ، وقال قتادة : المعنى : ييأس المشركون من كل خير.
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققا له بجعله ماضيا : (وَلَمْ يَكُنْ) ومعناه لا يكون (لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) أي : ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام (شُفَعاءُ) ينقذونهم مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى : (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي : خاصة (كافِرِينَ) أي : متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة ، وقيل : كانوا في الدنيا كافرين بسببهم ،