كاملا لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين أحوالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، ومات أكثرهم مظلوما قبل القصاص والظفر ، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر ، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه (ما خَلَقَ اللهُ) أي : بعز جلاله وعلوه في كماله (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن ، قال البقاعي : وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا. ه وقد يردّ هذا بقوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] (وَما بَيْنَهُما) من المعاني التي بها كمال منافعهما (إِلَّا) خلقا متلبسا (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيما قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقا لأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقا لكل ما يخطر بالبال.
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى (وَأَجَلٍ) لا بد أن ينتهي إليه (مُسَمًّى) أي : في العلم من الأزل ، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث.
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) مع ذلك على وضوحه (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : الذي ملأهم إحسانا برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب (لَكافِرُونَ) أي : لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) وقال من قبل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ)؟ أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلا على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل : و (إِنَّ كَثِيراً) وقال قبله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال :
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سير اعتبار ، وقوله تعالى (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريرا لسيرهم في أقطار الأرض ، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : العرب (قُوَّةً) أي : في أبدانهم وعقولهم (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي : حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك (وَعَمَرُوها) أي : أولئك السالفون (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود ، وفياف غبر ، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي :