لدرجاتهم (عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي : من المشركين تسلية له صلىاللهعليهوسلم كأنه تعالى يقول له : فاصبر كما صبروا ، ولا يكون ذلك إلا إذا وقع القول منه (وَكَفى بِرَبِّكَ) أي : المحسن إليك (هادِياً) أي : يهدي بك من قضى بسعادته (وَنَصِيراً) أي : ينصرك على من حكم بشقاوته.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ؛ لأن قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى وتلك العداوة كفر ، فإن قيل : قوله تعالى : (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) كقول نوح عليهالسلام : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح ، ٥ ، ٦] فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب ، فكذلك ما هنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله تعالى بالرحمة في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء ، ١٠٧]؟ أجيب : بأن نوحا عليهالسلام لما ذكر ذلك دعا عليهم ، وأما النبي صلىاللهعليهوسلم لما ذكر هذا لم يدع عليهم ، بل انتظر فلما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فافترقا.
الشبهة الخامسة : لمنكري النبوة ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : الذين غطوا عداوة وحسدا ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام الله تعالى لإعجازه لهم مفرقا فضلا عن كونه مجتمعا (لَوْ لا) أي : هلا (نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أي : أنزل كخير بمعنى أخير ؛ لئلا يناقض قولهم (جُمْلَةً) وأكدوا بقولهم (واحِدَةً) أي : من أوله إلى آخره كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود لتحقق أنه من عند الله تعالى ، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه الذي يرتبه قليلا قليلا ، وهذا الاعتراض في غاية السقوط ؛ لأن الإعجاز لا يتخلف بنزوله جملة أو متفرقا مع أن للتفريق فوائد منها :
ما أشار إليه بقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : أنزلناه شيئا فشيئا على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه (لِنُثَبِّتَ) أي : نقوي (بِهِ فُؤادَكَ) أي : قلبك فتعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا فشيئا وجزءا عقب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لتعيا بحفظه والرسول صلىاللهعليهوسلم فارقت حاله حال داود وموسى عليهمالسلام وعيسى حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وهم كانوا قارئين كاتبين ، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ ، فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة ، وقيل : في ثلاث وعشرين سنة ، وأيضا فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين ؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا.
فإن قيل : ذا في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدم هو إنزاله جملة ، فكيف فسر كذلك بأنزلناه مفرقا؟ أجيب : بأن الإشارة إلى الإنزال مفرقا لا إلى جملة ، والدليل على فساد هذا الاعتراض أيضا أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدوا بسورة واحدة من أقصر السور فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المجاذبة ، ثم قالوا : هلا نزل جملة واحدة؟ كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته ، وقوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال تعالى : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلا ، ومعنى ترتيله قال ابن عباس : بيناه بيانا ، والترتيل التبيين في تؤدة وتثبت ، وقال السدي : فصلناه تفصيلا ، وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض ، وقال الحسن : تفريقا آية بعد آية ووقعة عقب وقعة ، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته ، وذلك قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ