تَرْتِيلاً) [المزمل ، ٤] أي : اقرأه بترتل وتثبت.
ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة قراءته : لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها ، وقيل : هو أن ننزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة ، وهي عشرون سنة ، ولم نفرقه في مدة متقاربة.
ولما كان التقدير قد بطل ما أتوا به من هذا الاعتراض عطف عليه : (وَلا يَأْتُونَكَ) أي : يا أشرف الخلق أي : المشركون (بِمَثَلٍ) أي : باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظا ومعنى (إِلَّا جِئْناكَ) في جوابه (بِالْحَقِ) أي : الذي لا محيد عنه ، فيزهق ما أتوا به لبطلانه ، فسمى ما يوردون من الشبه مثلا ، وسمى ما يدفع به الشبه حقا (وَأَحْسَنَ) أي : من مثلهم (تَفْسِيراً) أي : بيانا وتفصيلا ، ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه ، فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا ، أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون : هلا كانت هذه صفتك وحالك؟ نحو أن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقى إليك كنز ، أو تكون لك جنة ، أو ينزل عليك القرآن جملة واحدة إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته.
ثم بين تعالى : حال هؤلاء المعاندين في الآخرة بقوله تعالى : (الَّذِينَ) أي : هم الذين (يُحْشَرُونَ) أي : يجمعون قهرا ماشين مقلوبين (عَلى وُجُوهِهِمْ) مسحوبين (إِلى جَهَنَّمَ) أي : كما أنهم لم ينظروا في الدنيا بعين الإنصاف فإن الآخرة مرآة الدنيا مهما عمل هنا رآه هناك كما أن الدنيا مزرعة الآخرة مهما عمل فيها جنى ثمره هناك. روى البخاري أن رجلا قال : «يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (١) ، وروى البيهقي : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدواب ، وصنف على الوجوه ، وصنف على الأقدام» (٢) ، ولما وصف الله تعالى المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف استأنف الإخبار عنهم بقوله تعالى : (أُوْلئِكَ) أي : البعداء البغضاء (شَرٌّ) أي : شر الخلق (مَكاناً) هو جهنم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي : أخطأ طريقا من غيرهم وهو كفرهم ، ولما قال تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) ، وذكر ذلك في معرض التسلية له صلىاللهعليهوسلم ذكر قصص جماعة من الأنبياء ، وعرفه تكذيب أممهم زيادة في تسليته.
القصة الأولى : قصة موسى عليهالسلام المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بما لنا من العظمة (مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي : معينا ، فإن قيل : كونه وزيرا كالمنافي لكونه شريكا له في النبوّة والرسالة؟ أجيب : بأنه لا منافاة بين النبوّة والرسالة والوزارة قد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء متعددون ، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضا.
تنبيه : هارون بدل أو بيان أو منصوب على القطع ووزيرا مفعول ثان ، وقيل : حال والمفعول الثاني معه ويدل على رسالة هارون عليهالسلام قوله تعالى : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ) أي : الذين فيهم قوة
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٧٦٠ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٨٠٦.
(٢) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٣٨٩٣٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٠٣ ، ٢٨٥.