ودعا إليه جهرا جيرانه وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي صلىاللهعليهوسلم ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ودعا الناس ودعا النبي صلىاللهعليهوسلم فلما قرب الطعام قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» (١) ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فأكل صلىاللهعليهوسلم من طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف ، فلما أتى أبيّ بن خلف قال له : يا عقبة صبأت؟ فقال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، والشهادة ليست في نفسي ، فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلا أن تأتيه وتبصق في وجهه وتطأ قفاه وتلطم وجهه وعينه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك عقبة ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبرا أمر عليا رضي الله عنه فقتله ، وقيل : قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري ، وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلىاللهعليهوسلم بيده يوم أحد طعنه في المبارزة فرجع إلى مكة ومات.
قال الضحاك : لما بصق عقبة في وجه النبي صلىاللهعليهوسلم عاد بصاقه في وجهه فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى مات ، وقال الشعبي : كان عقبة خليل أمية ، فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) أي : عقبة (عَلى يَدَيْهِ) قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ، ثم تنبت ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت ، وقال المحققون : هذه اللفظة للتحسر والغم يقال : عض أنامله وعض على يديه وهو لا يشعر حال كونه مع هذا الفعل (يَقُولُ) : أي : يجدد في كل لحظة قوله : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) أي : أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا (مَعَ الرَّسُولِ) أي : محمد صلىاللهعليهوسلم (سَبِيلاً) أي : طريقا إلى الهدى.
ولما تأسف على مجانبة الرسول ندم على مصادقة غيره بقوله : (يا وَيْلَتى) أي : يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره ؛ لأنه ليس يحضرني سواه (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً) أي : أبيا (خَلِيلاً) أي : صديقا أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها ، فكنى عن اسمه وإن أريد به الجنس ، فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم عليه لا محالة فجعله كناية عنه ، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بالسكون ، وأظهر الدال عند التاء ابن كثير وحفص ، وأدغمها الباقون.
ثم استأنف قوله : الذي يتوقع كل سامع أن يقوله : (لَقَدْ) أي : والله لقد (أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي : عمى علي طريق القرآن الذي لا ذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه ، والجملة في موضع العلة لما قبلها (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) ولم يكن لي منه مانع يردني عن الإيمان به ، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال ، والباقون بالإدغام وقوله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ) إشارة إلى خليله سماه شيطانا ؛ لأنه أضله كما يضل الشيطان ، أو إلى كل من كان سببا للضلال من عتاة الجن والإنس (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي : شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكون لا ينصره ولو أراد ما استطاع بل هو في شر من ذلك ؛ لأن عليه إثمه في نفسه ، ومثل إثم من أضله.
تنبيه : حكم هذه الآية عام في كل خليلين ومتحابين اجتمعا على معصية الله تعالى قال صلىاللهعليهوسلم : «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.