(بِالْغَمامِ) أي : كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها ، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
تنبيه : في هذه الباء ثلاثة أوجه : أحدها : أنها سببية ، أي : بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها ، ونحوه (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل ، ١٨] كأنه الذي تتشقق به السماء ، الثاني : أنها للحال أي : ملتبسة بالغمام ، الثالث : أنها بمعنى عن أي : عن الغمام كقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) [ق ، ٤٤] والباء وعن يتعاقبان تقول : رميت عن القوس ، وبالقوس ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين ، والباقون بتشديدها ، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) أي : بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد (تَنْزِيلاً) أي في أيديهم صحائف الأعمال ؛ قال ابن عباس : تتشقق السماء الدنيا ، فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها ، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جنا وإنسا ، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة ، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها ، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش.
فإن قيل : ثبت أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة ، فكيف تسع الأرض هؤلاء؟ أجاب بعض المفسرين : بأن الملائكة تكون في الغمام والغمام يكون مقر الملائكة ، ويجوز أن الله تعالى يوسع الأرض حتى تسع الجميع ، وقرأ ابن كثير بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الزاي ورفع اللام ، ونصب الملائكة ، والباقون بنون واحدة والزاي مشددة ونصب اللام ورفع الملائكة.
ثم بين تعالى أن ذلك اليوم لا يقضي فيه غيره بقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي : إذ تشقق السماء بالغمام ، ثم وصف الملك بقوله تعالى : (الْحَقُ) أي : الثابت ثباتا لا يمكن زواله ، ثم أخبر عنه بقوله تعالى : (لِلرَّحْمنِ) أي : العام الرحمة في الدارين ، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل ، ولو لا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة ، فإن قيل : مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن ، فما الفائدة في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ)؟ أجيب : بأن في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ولا في المعنى ، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه ، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام (وَكانَ) أي : ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذي طلب الكفار رؤيتهم له (يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي : شديد العسر والاستعار.
تنبيه : هذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا جاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» (١).
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) أي : المشرك لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال ، معمول لمحذوف أو معطوف على يوم تشقق ، وأل في الظالم تحتمل العهد والجنس لكن قال ابن عباس : أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما
__________________
(١) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة ٤٠١ ، والبغوي في تفسيره ٣ / ٤٤٢.