مِنْ رَبِّهِ) [القلم ، ٤٩] ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) [الفتح ، ٢٥] ، (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) [الإسراء ، ٧٤] انتهى. وقوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ،) أي : ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك (وَكانُوا مُجْرِمِينَ ،) أي : كافرين.
تنبيه : قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) إن كان معناه : واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر ؛ لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف فالواو للحال فكأنه قيل : أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على أترفوا ، أي : اتبعوا الإتراف ، وكونهم مجرمين ؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا ، أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى :
(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))
(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ،) أي : بشرك (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فيما بينهم ، والمعنى : أنه لا يهلك أهل القرى بمجرّد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم ، ولهذا قيل : إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة ، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم ، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ،) أي : أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء ، ٩٢] وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد ، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار ، ولهذا قال الزمخشري : يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ،) أي : على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم ، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضا اختلافا كثيرا لا ينضبط. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة» وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» (١). والمراد بهذه الفرق : أهل البدع والأهواء كالقدرية
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٩٢.