ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا ،) أي : لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطا ، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك ، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه ، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (١) ، فقوله صلىاللهعليهوسلم : إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله : وسدّدوا ، أي : اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب. وقاربوا ، أي : اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير ، والغدوة الرواح بكرة ، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه : اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضا. وقوله : واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله ، ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحا أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحا من باب أولى ، ثم علل ذلك مؤكدا تنزيلا لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ،) أي : عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.
(وَلا تَرْكَنُوا ،) أي : تميلوا (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أدنى ميل (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ،) أي : تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ، وتأمل قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا) فإنّ الركون هو الميل اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم!
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك ، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران ، ١٨٧] واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا ، حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّما يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم ، ٥٩] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسّلام.
وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء
__________________
(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٣٩ ، والنسائي في الإيمان حديث ٥٠٣٤.