كما قال تعالى في سورة يونس عليهالسلام : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [يونس ، ٩٣] الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به ؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكدا : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ ،) أي : عظيم محيط بهم (مِنْهُ ،) أي : من الكتاب والقضاء (مُرِيبٍ ،) أي : موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل : الضمير في (وَإِنَّهُمْ) راجع لكفار مكة وفي (مِنْهُ) للقرآن (وَإِنَّ كُلًّا ،) أي : كل الخلائق ، وقوله تعالى (لَمَّا) ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة ، ويجازي المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.
فائدة : قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات : أوّلها : كلمة إن وهي للتأكيد ، وثانيها : لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها : اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضا. ورابعها : حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولا. وخامسها : المضمر. وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها : النون المذكورة في قوله تعالى (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ، ثم أردفه بقوله تعالى : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده ، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين.
ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (فَاسْتَقِمْ ،) أي : على دين ربك والعمل والدعاء إليه (كَما أُمِرْتَ) والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلىاللهعليهوسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها ، فهو كقولك للقائم : قم حتى آتيك ، أي : دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك ، وتوطئة لقوله تعالى : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ ،) أي : وليستقم أيضا على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب ، وأشار صلىاللهعليهوسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله : «شيبتني هود وأخواتها» (١) ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلىاللهعليهوسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية ، وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النوم فقلت له : يروى عنك أنك قلت : «شيبتني هود» فقال : نعم. فقلت : بأيّ آية؟ قال : «قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».) وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال : «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم» (٢). قال الإمام الرازي : إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة ، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى.
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه.
(٢) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٤١٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٧٢.