كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال : اعملوا فكل مسير لما خلق له ، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل ، ٥ ، ٦ ، ٧] الآية» (١). وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه ، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده ، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه.
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) في علمه تعالى (فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) وهو صوت شديد (وَشَهِيقٌ) وهو صوت ضعيف. وقيل : الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر ، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم (خالِدِينَ فِيها) وقوله تعالى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فيه وجهان : أحدهما : سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضا قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم ، ٤٨]. وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر ، ٧٤] ، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى ، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء ، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني : أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا (إِلَّا ،) أي : غير (ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبدا (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير اعتراض.
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) كما تقدّم ، ودل عليه قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ،) أي : مقطوع ، وقيل : الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء ، وذلك كاف في صحة الاستثناء ؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء ،. لما روي عن جابر أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يخرج قوم من النار بالشفاعة» (٢) ، وفي رواية : «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة» (٣). وفي رواية أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «ليصيبن قوما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» (٤) وفي رواية أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلىاللهعليهوسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين» (٥). وعن عبد الله بن
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٦٢ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٣٤٤.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٦٦ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٤٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ١٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣٤ ، ٢٦٩ ، ٥ / ٣٩١.
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٩١.
(٤) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٥٠.
(٥) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.