والسّلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا. قال تعالى بعده : (وَكَذلِكَ ،) أي : ومثل ذلك الأخذ العظيم (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ،) أي : القرى (ظالِمَةٌ) والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص ، ٥٨] وقوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) [الأنبياء ، ١٢] فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصورا على من تقدّم ، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة ، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيدا وتقوية بقوله تعالى : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ ،) أي : مؤلم (شَدِيدٌ ،) أي : صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ»)(١) وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها ، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد ، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث.
(إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم (لَآيَةً ،) أي : لعبرة وموعظة (لِمَنْ خافَ عَذابَ) يوم الحياة (الْآخِرَةِ) لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى ، وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة ؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ ،) أي : فيه (النَّاسُ ،) أي : إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون ، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى : (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ،) أي : يشهده أهل السموات وأهل الأرض.
(وَما نُؤَخِّرُهُ ،) أي : ذلك اليوم وهو يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ ،) أي : وقت (مَعْدُودٍ ،) أي : معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى.
(يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم (لا تَكَلَّمُ) فيه حذف إحدى التاءين ، أي : لا تتكلم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات بعد التاء من يأتي وصلا ووقفا وحذفها الباقون ، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل : كيف يوفق بين قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل ، ١١١] وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أجيب : بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم (فَمِنْهُمْ ،) أي : الناس (شَقِيٌّ وَ) منهم (سَعِيدٌ ،) أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد ، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد ، وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال :
__________________
(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٦٨٦ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٨٣ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١١٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠١٨.