النوع الثاني : قوله : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله ، والمعنى : اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ ، (إِنِّي) أيضا (عامِلٌ) بما آتاني الله من القدرة والطاعة (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل : لم لم يقل فسوف تعلمون؟ أجيب : بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جوابا عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني ، تقديره أنه لما قال : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) فكأنهم قالوا : فماذا يكون بعد ذلك فقال : سوف تعلمون ، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل ؛ لأنه استئناف. (وَارْتَقِبُوا ،) أي : انتظروا عاقبة أمركم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ،) أي : منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم ، بمعنى الضارب والصارم ، أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذابهم وإهلاكهم (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ ،) أي : بفضل (مِنَّا) بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل : لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟ أجيب : بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فلذلك جاءا بفاء السببية. (أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ،) أي : ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. (الصَّيْحَةُ ،) أي : صيحة جبريل عليهالسلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعا ، وقيل : أتتهم صيحة من السماء (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ،) أي : باركين على الركب ميتين.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ،) أي : كأنهم لم يقيموا (فِيها ،) أي : ديارهم مدّة من الدهر ، مأخوذ من قولهم : غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيا به عن غيره (أَلا بُعْداً ،) أي : هلاكا (لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) إنما شبههم بهم ؛ لأنّ عذابهم كان أيضا بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم ، قال ابن عباس : لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.
القصة السابعة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسّلام المذكورة في قوله تعالى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ