جرم ذنبا وكسبه وجرمته ذنبا وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح العقيم (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) لا في الزمان ولا في المكان ؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم ، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم ، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال ، فكأنه يقول : اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل : لم قال ببعيد ولم يقل ببعيدين؟ أجيب : بأنّ التقدير : وما إهلاكهم بشيء بعيد ، وأيضا يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ،) أي : آمنوا به (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عن عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ،) أي : عظيم الرحمة للتائبين (وَدُودٌ ،) أي : محب لهم. ولما بلغ عليهالسلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.
الأوّل : (قالُوا) له (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ،) أي : ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ.) فإن قيل : إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا : (ما نَفْقَهُ؟) أجيب : بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام ، ٢٥] أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزنا ، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة ، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول.
النوع الثاني : قولهم له : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ،) أي : لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلا لا عز لك ، وقيل : أعمى بلغة حمير ، قاله قتادة ، وفي هذا تجويز العمى على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى ؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل ، وقيل : ضعيف البصر ، قاله الحسن.
النوع الثالث : قولهم له : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ ،) أي : عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم (لَرَجَمْناكَ) بالحجارة حتى تموت ، والرهط من الثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى السبعة ، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه.
النوع الرابع : قولهم له : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ،) أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم ، وإنما يعز علينا رهطك ؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، ولما خوّف الكفار شعيبا عليهالسلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان :
الأوّل : (قالَ) لهم (يا قَوْمِ) مستعطفا لهم مع غلظتهم عليه (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) المحيط بكل شيء قدرة وعلما حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ،) أي : جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به ، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف» : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب ، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس : إمسيّ بكسر الهمزة ، وقوله : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ،) أي : إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.