يمكن إلا بقدرة قادر حكيم.
ثم ذكر تعالى ما هو أدل على الاختيار بقوله تعالى مترجما لما يشمل ما مضى وزيادة : (يُقَلِّبُ اللهُ) أي الذي له الأمر كله بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاما والنقص تارة والزيادة أخرى مع المطر تارة والصحو أخرى (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والتنويع واليبس ما يبهر العقول ، ولهذا قال منبها على النتيجة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم (لَعِبْرَةً) أي دلالة على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته وإحاطة علمه ، ونفاذ مشيئته ، وتنزيهه عن الحاجة وما يفضي إليها (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده ، ولما استدل تعالى أولا بأحوال السماء والأرض وثانيا بالآثار العلوية استدل ثالثا بأحوال الحيوانات بقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي : حيوان (مِنْ ماءٍ) وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل.
فإن قيل : كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عددا ، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران ، ٥٩] وخلق عيسى من الريح ، كما قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم ، ١٢] ونرى كثيرا من الحيوانات يتوالد لا من نطفة؟ أجيب : بوجوه ؛ أحسنها : ما قال القفال : إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى ، ثانيها : إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب» (١) ، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة ، فكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى ، ثالثها : المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك ، فتخرج الملائكة والجن ، رابعها : لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلا للغالب منزلة الكل.
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله تعالى : (مِنْ ماءٍ) وعرفه في قوله تعالى : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ، ٣٠]؟ أجيب : بأنه جاء ههنا منكرا لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصا بتلك الدابة ، وعرفه في قوله تعالى : (مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ؛) لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وههنا بيان أن ذلك الجنس. ينقسم إلى أنواع كثيرة (فَمِنْهُمْ) أي : الدواب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.) كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) أي : فقط كالآدمي والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) أي : من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلا الذي يسمى دخال الأذن؟ أجيب : بأن هذا القسم
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.