عباس : ما كانت تلك الخيانة؟ فقال : كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به. (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : بما لا تعلم أصواب هو أم لا؟ لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفا ووصلا (إِنِّي أَعِظُكَ) أي : بمواعظي كراهة (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده.
(قالَ) نوح (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ) أي : من أن (أَسْئَلَكَ) في شيء من الأشياء (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) تأدبا بأدبك واتعاظا بوعظك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) أي : الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني (وَتَرْحَمْنِي) أي : تستر زلاتي وتمحها وتكرمني (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : الغريقين في الخسارة. فإن قيل : هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليهالسلام؟ أجيب : بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره ؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام : كافر يظهر كفره ، ومؤمن يخفي إيمانه ، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق ، وكان ذلك معلوما ، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفيا ، وكان ابن نوح منهم ، وكان يجوز فيه كونه مؤمنا ، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرا بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليهالسلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد ، فلم تصدر منه معصية ، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليهالسلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف ، ٢٣] لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
(قِيلَ) أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ) أي : انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية (بِسَلامٍ) أي : بعظم وأمن وسلامة (مِنَّا) وذلك أنّ الغرق لما كان عاما في جميع الأرض فعندما خرج نوح عليهالسلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب ، فلما قال الله تعالى : (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) زال عنه ذلك الخوف ؛ لأنّ ذلك يدل على حصول السلامة وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق. ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة بقوله تعالى : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) وهو عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ؛ لأنّ الله تعالى صير نوحا عليهالسلام أبا البشر ؛ لأنّ جميع من بقي كانوا من نسله ؛ لأنّ نوحا لما خرج من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته فالخلق كلهم من نسله ، أو أنه لم يكن معه في السفينة إلا من كان من نسله وذريته ، وعلى التقديرين فالخلق كلهم من ذريته. ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات ، ٧٧] فثبت أنّ نوحا كان آدم الأصغر فكان أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان كلهم منه ومن ذريته وكان بين نوح وآدم ثمانية أجداد. وقوله تعالى : (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) يحتمل أن تكون من للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة ؛ لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم ؛ لأنّ الأمم تتشعب