ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي صلىاللهعليهوسلم وفيما يقوله بقوله تعالى : (بَلْ قالُوا) أي : قال بعضهم هذا الذي قال لكم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي : أخلاط أحلام رآها في النوم ، وقال بعضهم : (بَلِ افْتَراهُ) أي : اختلقه من عند نفسه ، ونسبه إلى الله تعالى ، وقال بعضهم : (بَلْ هُوَ) أي : النبي صلىاللهعليهوسلم (شاعِرٌ) فما جاءكم به شعر ، والشاعر يخيل ما لا حقيقة له لغيره ، أو أنهم كلهم أضربوا عن قولهم : هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهكذا المبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد ؛ قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد ، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول ، والثالث أفسد من الثاني ، وكذا الرابع أفسد من الثالث.
ثم إنهم لما قدحوا في أعظم المعجزات طلبوا آية غيره ، فقالوا : (فَلْيَأْتِنا) دليلا على رسالته (بِآيَةٍ كَما) أي : مثل ما (أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بالآيات كتسبيح الجبال وتسخير الريح وتفجير الماء ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية قال الله تعالى مجيبا لهم : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل مشركي مكة (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : من أهل قرية أتتهم الآيات (أَهْلَكْناها) باقتراح الآيات لما جاءتهم (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي : لو جئتهم بها وهم أغنى منهم ، وفيه دليل على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا ، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.
ولما بيّن تعالى بطلان ما اقترحوا به في رسوله صلىاللهعليهوسلم بكونه بشرا قال تعالى عاطفا على آمنت مجيبا عن قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) أي : في جميع الزمان الذي تقدّم زمانك في جميع طوائف البشر (إِلَّا رِجالاً) أي : لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) مثلك ثم إنه تعالى أمر المشركين أن يسألوا أهل الكتاب بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا لا ينكرون أنّ الرسل كانوا بشرا ، وإن أنكروا نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وقيل : المراد بالذكر القرآن ، أي : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ، ولا همزة بعدها ، وكذا يفعل حمزة في الوقف ، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ، ثم نبّه تعالى على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما قد كان بلغهم على الإجمال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهمالسلام بقوله تعالى معبرا بأداة الشك محركا لهم على المعالي (إِنْ كُنْتُمْ) أي : بجبلاتكم (لا تَعْلَمُونَ) أي : لا أهلية لكم في اقتناص علم بل كنتم أهل تقليد محض ، وتبع صرف.
ولما بيّن تعالى أنه صلىاللهعليهوسلم على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلا بيّن أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر في العيش والموت ، فنبه على الأول بقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ) أي : الذين اخترنا بعثتهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا (جَسَداً) أي : ذوي جسد ولحم ودم متصفين بأنهم (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) بل جعلناهم أجسادا يأكلون ويشربون ، وليس ذلك بمانع من إرسالهم.
فائدة : قال ابن فارس في المجمل وفي كتاب الخليل : إنّ الجسد لا يقال لغير الإنسان ، وتوحيد الجسد لإرادة الجنس كأنه قيل : ذوي ضرب من الأجساد ، أو على حذف المضاف ، أي : ذوي جسد كما مر ، أو تأويل الضمير لكل واحد ، وهو جسم ذو لون ، قال البيضاوي : ولذلك أي :