ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى : (هَلْ) أي : فقالوا في تناجيهم هذا ، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل (هذا) الذي أتاكم بهذا الذكر (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب ، والحياة والممات ، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له ، فحينئذ تسبب عن هذا الإنكار قولهم : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ) أي : والحال أنكم (تُبْصِرُونَ) بأعينكم أنه بشر مثلكم ، فكأنهم استدلوا بكونه بشرا على كذبه في ادعاء النبوة والرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر ، فأنكروا حضوره.
فإن قيل : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب : بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره ، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم ، ويجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.
ومنه قول الناس : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» (١) ، قال البقاعي : فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم ، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان ، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضا أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة ، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة ، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى ، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها.
ثم كأنه قيل : فماذا يقال لهؤلاء فقال : (قالَ) لهم : (رَبِّي) المحسن إلي (يَعْلَمُ الْقَوْلَ) سواء كان سرا أم جهرا كائنا (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) على حد سواء ؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ،) فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.
فإن قيل : هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [طه ، ٦٢] أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة ، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر كما أن قوله : يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.
فإن قيل : لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان ، ٦] ، ولم يقل : يعلم القول كما هنا؟ أجيب : بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع ، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى ، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتانا ، ويجمع الغاية وما دونها ، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى ، فكأنه أراد أن يقول : إنّ ربي يعلم ما أسروه ، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة ، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ، فهو كقوله تعالى : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة ، ١٠٩](عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [سبأ ، ٣] ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر.
__________________
(١) هو من حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٩٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٥٣.