ولكون الجسد جسما ذا اللون لا يطلق على الماء والهواء ، وهو في الماء مبني على أنه لا لون له ، وإنما يتلون بلون ظرفه أو مقاله ؛ لأنه جسم شفاف ، لكن قال الإمام الرازي : بل له لون ويرى ، ومع ذلك لا يحجب عن رؤية ما وراءه ، ثم نبه على الثاني بقوله تعالى : (وَما كانُوا خالِدِينَ) أي : بأجسادهم ، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم ، وإنما امتازوا عن الناس بما يأتيهم عن الله تعالى ورسولكم صلىاللهعليهوسلم ليس بخالد ، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه ، فإنه متربص بكم ، وأنتم عاصون الملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له.
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي : الذي وعدناهم بإهلاكهم ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف ، ١٥٥] في حذف الجار والأصل في الوعد ، ومن قومه ومنه صدقوهم القتال ، وصدقني سنّ بكره والأصل في هذا المثل أن أعرابيا عرض بعيرا للبيع ، فقال له المشتري : ما سنه؟ قال : بكر ، فاتفق أنه ند ، فقال صاحبه هدع هدع ، وهذه اللفظة مما يسكن بها صغار الإبل لا الكبار ، فقال المشتري : صدقني سنّ بكره ، وأعرض ، فصار مثلا.
تنبيه : أشار تعالى بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم ، وصبرهم عليهم ، ثم أحل بهم سطوته ، وأراهم عظمته (فَأَنْجَيْناهُمْ) أي : الرسل (وَمَنْ نَشاءُ) وهم المؤمنون أو من في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو واحد من ذريته ، ولذلك حميت به العرب من عذاب الاستئصال ، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي : المشركين ؛ لأن المشرك مسرف على نفسه.
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا معشر قريش (كِتاباً) أي : القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : شرفكم ووصيتكم كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ، ٤٤] ، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك ، وقيل : فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، أو لأنه نزل بلغتكم ، وقيل : فيه تذكرة لكم لتحذروا ، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنوا به ، وفي ذلك حث على التدبر ؛ لأن الخوف من لوازم العقل.
(وَكَمْ قَصَمْنا) أي : أهلكنا (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : أهلها بغضب شديد ؛ لأن القصم أفظع الكسر ، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم ، وقوله تعالى : (كانَتْ ظالِمَةً) أي : كافرة صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامها ، ثم بيّن الغنى عنها بقوله تعالى : (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) أي : بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم ، ثم بيّن حالها عند إحلال البأس بها بقوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا) أي : أدرك أهلها بحواسهم (بَأْسَنا) أي : عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها) أي : القرية (يَرْكُضُونَ) هاربين منها مسرعين راكضين دوابهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب والركض ضربة الدابة بالرجل ، ومنه اركض برجلك ، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم بعد تجبرهم على الرسل ، وقولهم لهم : لنخرجنكم من أرضنا ، أو لتعودن في ملتنا ، فناداهم لسان الحال تقريعا وتشنيعا لحالهم.
(لا تَرْكُضُوا) أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين (وَارْجِعُوا) إلى قريتكم (إِلى ما أُتْرِفْتُمْ) أي : تمتعتم (فِيهِ) من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة والترفه ، ولما كان أعظم ما يوسف عليه بعد العيش الناعم المسكن قال : (وَمَساكِنِكُمْ) أي : التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء بما أوسعتم من فنائها ، وعليتم من بنائها ، وحسنتم من مشاهدها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) وفي هذا تهكم بهم وتوبيخ أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما يجري عليكم ،