الشاعر (١) :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد |
|
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس |
ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان ، وقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٢) ، وأشار بإصبعيه ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «ختمت النبوة بي» (٣) كل ذلك لأجل أنّ الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي ، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم ، وهو ما يتلوه من صفات المشركين ، وهو قوله تعالى : (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (فِي غَفْلَةٍ) أي : عن الحساب (مُعْرِضُونَ) عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم ، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء ، وأيضا إن هذه الآية نزلت في كفار مكة.
ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله : (ما يَأْتِيهِمْ) وأغرق في النفي بقوله : (مِنْ ذِكْرٍ) أي : وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة ، وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمْ) صفة ذكر أو صلة ليأتيهم (مُحْدَثٍ) إنزاله أي : ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به ، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية ، وقيل : معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر ، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع ، وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي صلىاللهعليهوسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن ، وإضافه إليه ؛ لأن الله تعالى قال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤](إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) أي : قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (يَلْعَبُونَ) أي : يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور ، والتفكر في العواقب
(لاهِيَةً) أي : غافلة معرضة (قُلُوبُهُمْ) عن ذكر الله.
تنبيه : قوله تعالى : وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان ، أو متداخلتان ، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفا على استمعوه : (وَأَسَرُّوا) أي : الناس المحدّث عنهم (النَّجْوَى) أي : بالغوا في إسرار كلامهم ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره ، والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ، وقيل : جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث وقيل : منصوب المحل على الذم ،
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في نفخ الطيب ١ / ١١١ ، ولفظ البيت في نفخ الطيب :
ولا انفكّ ما يرجو أقرب من غد |
|
ولا زال ما يخشاه أبعد من أمس |
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٤ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٩٥١ ، والترمذي في الفتن حديث ٢٢١٤ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٤٠ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٧٥٩.
(٣) روي الحديث بلفظ : «ختم بي النبيون» ، أخرجه بهذا اللفظ مسلم في المساجد حديث ٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤١٢.