أي : فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره ، وسمى كل منهما سوأة ؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه (وَطَفِقا يَخْصِفانِ) أي : أخذا يلزقان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ليستترا به ، قال ابن عادل : وهو ورق التين (وَعَصى آدَمُ) بالأكل من الشجرة ، وإن كان إنما فعل المنهي نسيانا لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ، ودوام المراقبة (رَبَّهُ) المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده ، وإسجاد ملائكته له ، ومعاداة من عاداه (فَغَوى) أي : فعل ما لم يكن له فعله ، وقيل : أخطأ طريق الحق ، وقيل : حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه فخاب ، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب ؛ قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عصى آدم ، ولا يجوز أن يقال : آدم عاص ؛ لأنه إنما يقال : عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه ، فيقال : خاط ثوبه ، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده.
تنبيه : تمسك بعضهم بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) في صدور الكبيرة عنه من وجهين : الأول : أن العاصي اسم للذم ، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [الجن ، ٢٣] ، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه ، الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان ، والغي ضد الرشاد ، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه ، وأجيب : بأن المعصية مخالفة الأمر ، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب ، فإنك تقول : أمرته فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني ، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب ، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز ، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ، وكذا القول في غوى ؛ قال الرازي : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوّة ، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة ، وقيل : بل أكل من الشجرة متأولا ، وهو لا يعلم أنّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس ، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة ، فهو كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين أي : يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات.
(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : اختاره واصطفاه (فَتابَ عَلَيْهِ) أي : قبل توبته ، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة (وَهَدى) أي : هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار ، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف.
(قالَ) الرب سبحانه وتعالى : الذي انتهكت حرمة داره (اهْبِطا) أي : آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما (مِنْها) أي : الجنة (جَمِيعاً) وقيل : الخطاب لآدم ومعه ذريته ، ولإبليس ، فقوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوّ من ظلم بعضهم لبعض ، وعلى الثاني آدم وذريته ، وإبليس وذريته ، وقوله تعالى : (فَإِمَّا) فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : كتاب ورسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول (فَلا يَضِلُ) أي : بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا (وَلا يَشْقى) في الآخرة ؛ قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة ، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك أن الله تعالى يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).