ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى :
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي : عن القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) والضنك أصله الضيق والشدة ، وهو مصدر ، فكأنه قال : له معيشة ذات ضنك ، واختلف في ذلك ، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود : المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر ، وروى أبو هريرة أنّ عذاب القبر للكافر ، قال : قال صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه ، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون» (١) ، وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم ، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم ، وشرابهم الحميم والغسلين ، فلا يموتون فيها ولا يحيون ، وقال ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها ، وعن عطاء : المعيشة الضنك هي معيشة الكافر ؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب ، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «عقوبة المعصية ثلاثة ؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة ، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله» (٢) ، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى ، وعلى قسمته ، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا رفيعا كما قال الله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل ، ٩٧] ، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة ، قال صلىاللهعليهوسلم : «لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانيا ، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (٣) متفق عليه. قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته ، وتشوش عليه رزقه ، وقال تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [نوح : ١٠ ، ١١] الآية ، وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن ، ١٦]. ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال ابن عباس : إذا خرج من القبر خرج بصيرا ، فإذا سيق إلى المحشر عمي ، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم ، ٣٨] ، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم ، وفي لفظ قال : لا يبصر إلا النار ، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة ، ويؤيد الأول قوله تعالى : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) في هذا اليوم؟ (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي : في الدنيا ، أو في أول هذا اليوم ، فكأنه قيل : بم أجيب؟ فقيل : (قالَ) له ربه (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك فعلت ، ثم فسره فقال : (أَتَتْكَ آياتُنا) واضحة نيرة (فَنَسِيتَها) فعميت عنها ، وتركتها غير منظور إليها (وَكَذلِكَ) أي : ومثل تركك إياها (الْيَوْمَ تُنْسى) أي : تترك في العمى والعذاب.
(وَكَذلِكَ) أي : ومثل هذا الجزاء الشديد (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) في متابعة هواه ، فتكبر عن
__________________
(١) أخرجه الترمذي في نوادر الأصول ٢ / ١٠١.
(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٣) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٤٣٨ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٤٨ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٣٧.