(فَوَسْوَسَ) أي : فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس (إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) المحترق المطرود وهو إبليس أي : أنهى إليه الوسوسة ، وأما وسوس له ، فمعناه لأجله ، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا) [الأعراف ، ٢٠] ، وتارة بإلى ، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي : على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدا (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) أي : لا يبيد ولا يفنى ، قال الرازي : واقعة آدم عجيبة ، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ورغبة إبليس أيضا في دوام الراحة بقوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) وفي انتظام المعيشة بقوله : (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة ، وإبليس وقفه على الإقدام عليها ، ثم إن آدم مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة ، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له ، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي ، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه ، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ، ولا مانع له منه ، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة ، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدّره انتهى.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض ، فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء ، وقرّبك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني ؛ قال موسى : بأربعين عاما قال آدم : فهل وجدت فيها (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) قال : نعم ، قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؛ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحج آدم موسى» (١) ، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء ، وقال : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (٢) ، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيرا إلى الشجرة التي نهي عنها : ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
(فَأَكَلا) أي : فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل (مِنْها) هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما ، وإنما جمع سوآتهما كما قال : (صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم ، ٤]
__________________
(١) أخرجه البخاري في القدر حديث ٦٦١٤ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٥٢ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠١ ، والترمذي في القدر حديث ٢١٣٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٨٠.
(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٣.