ذلك النسيان ، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعا عن الإنسان بل كان يؤاخذ به ، وإنما رفع عنا ، وكان الحسن يقول : ما عصى أحد قط إلا بنسيان ، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها ، وقيل : نسي عقوبة الله تعالى ، وظن أنه نهي تنزيه.
تنبيه : هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة ، ثم في الأعراف ، ثم في الحجر ، ثم في الكهف ، ثم ههنا ، وقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) تقدّم الكلام على ذلك مفصلا في سورة البقرة ، وقوله تعالى : (أَبى) جملة مستأنفة ؛ لأنها جواب سؤال مقدر ؛ أي : ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبى ، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مرادا ، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر ، ٣١] ، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة ، ويجوز أن لا يراد أصلا ، وأنّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو
(فَقُلْنا) بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة (يا آدَمُ إِنَّ هذا) الشيطان الذي تكبر عليك (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حوّاء بالمدّ لأنها منك ، وسبب تلك العداوة من وجوه ؛ الأول : أن إبليس كان حسودا ، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده ، فصار عدوا له ، الثاني : أن آدم كان شابا عالما لقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة ، ٣٠] ، وإبليس كان شيخا جاهلا ؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله ، وذلك جهل ، والشيخ الجاهل أبدا يكون عدوا للشاب العالم ، الثالث : أن إبليس مخلوق من النار ، وآدم مخلوق من الماء والتراب ، فبين أصليهما عداوة ، فثبتت تلك العداوة فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى؟ أجيب : بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل : لم قال تعالى : (فَتَشْقى) أي : فتتعب وتنصب في الدنيا ، ولم يقل : فتشقيا؟ أجيب بوجهين : أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم ، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة ، وعن سفيان بن عيينة قال : لم يقل فتشقيا ؛ لأنها داخلة معه ، فوقع المعنى عليهما جميعا وعلى أولادهما جميعا كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق ، ١] ، و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم ، ١](قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم ، ٢] ، فدخلوا في المعنى معه ، وإنما كلم النبي وحده ، الثاني : أريد بالشقاء التعب في طلب القوت ، وذلك على الرجل دون المرأة ؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته ، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه ، وعن الحسن قال : عنى به شقاء الدنيا ، فلا تلقى ابن آدم إلا شقيا ناصبا أي : ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك ، ولما كان الشبع والريّ والكسوة والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب ، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى)
(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) أي : تعطش (فِيها وَلا تَضْحى) أي : لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى : (فَتَشْقى).