هباء منثورا ؛ قال الخليل : ينسفها يذهبها ويطيرها.
وفي ضمير (فَيَذَرُها) قولان أحدهما : أنه ضمير الأرض أضمرت للدلالة عليها كقوله تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر ، ٤٥] ، والثاني : ضمير الجبال ، وذلك على حذف مضاف أي : فيذر مراكزها ومقارها ، ويذر يجوز أن يكون بمعنى يخليها ، فيكون (قاعاً) حالا وأن يكون بمعنى يترك التصييريه ، فيتعدى لاثنين فقاعا ثانيهما ، والقاع هو المكان المستوي ، وقيل : الأرض التي لا بناء فيها ، ولا نبات ، وفي قوله تعالى : (صَفْصَفاً) قولان أحدهما : الأرض الملساء ، والثاني : المستوية ، والقاع والصفصف قريبان من الترادف ، وجمع القاع أقوع وأقواع وقيعان
(لا تَرى فِيها) أي : الأرض أو مواضع الجبال (عِوَجاً) أي : انخفاضا (وَلا أَمْتاً) أي : ارتفاعا بوجه من الوجوه ، وعبر هنا في العوج بالكسر ، وهو للمعاني ، ولم يعبر بالفتح الذي توصف به الأعيان ، فإن الأرض أو مواضع الجبال أعيان لا معان نفيا للاعوجاج على أبلغ وجه بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأرض لاتفقوا على الحكم باستوائها ، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا بمقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك.
(يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ نسفت الجبال (يَتَّبِعُونَ) أي : الناس بعد القيام من القبور بغاية جهدهم (الدَّاعِيَ) أي : إلى المحشر ، وهو إسرافيل يضع الصور على فيه ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول : أيتها العظام البالية ، والجلود الممزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن (لا عِوَجَ لَهُ) أي : الداعي في شيء من قصدهم إليه ؛ لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعويج ، ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء ، وقيل : لا عوج لدعائه ، وهو من المقلوب ، أي : لا عوج له عن دعاء الداعي لا يزيغون عنه يمينا ولا شمالا ، ولا يقدرون عليه ، بل يتبعونه سراعا (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) أي : سكنت وذلت وتطامنت لخشوع أهلها (لِلرَّحْمنِ) الذي عمت نعمه ، فيرجى كرمه ، وتخشى نقمه (فَلا) أي : فتسبب عن خشوعها أنك لا (تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أخفى ما يكون من الأصوات ، وقيل : أخفى شيء من أصوات الأقدام في نقلها إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل في مشيها.
(يَوْمَئِذٍ) أي : إذا كان ما تقدم (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أحدا (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أن يشفع له (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) ولو الإيمان المجرد قال ابن عباس : يعني قال : لا إله إلا الله ، فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن ، ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك كما سلف في آية الكرسي بقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : الخلائق من أمور الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمور الدنيا ، وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما قدموا (وَما خَلْفَهُمْ) ما خلفوا من الأعمال (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي : لا يحيط علمهم بمعلوماته ، وقيل : الضمير راجع إلى (ما) أي : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وهم لا يعلمونه ، وقيل : راجع إلى الله تعالى أي : ولا يحيطون بالله علما.
ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها ، فقال : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) أي : ذلت وخضعت في ذلك اليوم ، ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره ، وخص الوجوه بالذكر مع أن المراد الأشخاص لشرف الوجوه ، ولأنها أول ما يظهر فيها الذل (لِلْحَيِ) الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل (الْقَيُّومِ) الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت ؛ روى ابن