أقول لك : اذهب من بيننا ، وحيث ذهبت (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) أي : ما دمت حيا (أَنْ تَقُولَ) لكل من رأيته (لا مِساسَ) أي : لا تمسني ولا أمسك ، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك ، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع ، وإذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا عاقبه الله تعالى بذلك ، وكان إذا لقي أحدا يقول لا مساس ؛ أي : لا تقربني ولا تمسني ، وقال ابن عباس : لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك ، وإذا مس أحد من غيرهم أحدا منهم حما جميعا في ذلك الوقت (وَإِنَّ لَكَ) بعد الممات (مَوْعِداً) للثواب إن تبت ، والعقاب إن أبيت لن تخلقه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وبكسر اللام أي : لن تغيب عنه ، والباقون بفتحها أي : بل تبعث إليه ، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس ، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل ، فقال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) أي : بزعمك (الَّذِي ظَلْتَ) أي : دمت في مدة يسيرة جدا بما أشار إليه تخفيف التضعيف ، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفا (عَلَيْهِ عاكِفاً) أي : مقيما تعبده (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي : بالنار وبالمبرد قال البقاعي : كما سلف عن نص التوراة ، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان ، فهان على المبارد انتهى ، (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) أي : لنذرينه إذا صار سحالة (فِي الْيَمِ) أي : في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون ، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم ، فيحميها في نار جهنم ، ويكويهم بها ، ويجعلها من أشد العذاب عليهم ، وأكد الفعل إظهارا لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك ، وتحقيقا للصدق في الوعد ، فقال : (نَسْفاً) قال الجلال المحلي : وفعل موسى بعد ذبحه ما ذكره انتهى ، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد ؛ قال الرازي : ويمكن أن يقال : صار لحما ودما ، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها.
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر ، فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) أي : الجامع لصفات الكمال ، ثم كشف المراد من ذلك ، وحققه بقوله : (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره ؛ لأنه (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ) وقوله : (عِلْماً) تمييز محول عن الفاعل ، أي : أحاط علمه بكل شيء ، فكل شيء إليه مفتقر ، وهو غني عن كل شيء ، وأما العجل الذي عبدوه ، فلا يصلح للإلهية بوجه ، ولا في عبادته شيء من حق ، ولما شرح الله تعالى قصة موسى مع فرعون أولا ، ثم مع السامري ثانيا على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل : هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع ، والمثال الرفيع ، فقيل : نعم.
(كَذلِكَ) أي : مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ) أي : أخبار (ما قَدْ سَبَقَ) من الأمم زيادة في علمك وإجلالا لمقدارك ، وتسلية لقلبك ، وإذهابا لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك ، وتكثيرا لبيناتك ، وزيادة في معجزاتك ، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة ، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر (وَقَدْ آتَيْناكَ) أي : أعطيناك تشريفا لك وتعظيما لقدرك (مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (ذِكْراً) أي : كتابا هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم ، وثانيها : أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه ، وفيه التذكير والموعظة ، وثالثها : فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ، ٤٤] وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكرا فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل ، ٤٣] والتنكير فيه للتعظيم ، فإنه مشتمل على