وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته ، فأطاعه بعضهم ، وامتنع بعضهم ، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني اسرائيل يقال لهم : السامرة ، وقيل : كان علجا من أهل كرمان وقع إلى مصر ، وقيل : كان من قوم يعبدون البقر جيران لبني اسرائيل ، ولم يكن منهم ، واسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقا
(فَرَجَعَ مُوسى) لما أخبره ربه بذلك (إِلى قَوْمِهِ) بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة ، وعشر ليال من ذي الحجة ، وأخذ التوراة (غَضْبانَ) عليهم (أَسِفاً) أي : حزينا بما فعلوا (قالَ) أي : لقومه لما رجع إليهم مستعطفا لهم : (يا قَوْمِ) وأنكر عليهم بقوله : (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ) أي : الذي أحسن إليكم (وَعْداً حَسَناً) أي : بأنه ينزل عليكم كتابا حافظا ، ويكفر عنكم خطاياكم ، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه ، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري (١) :
لا أنسينك طال الزمان بنا |
|
وكم حبيب تمادى عهده فنسي |
قال لهم : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي : زمن لطف الله تعالى بكم ، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر (أَمْ أَرَدْتُمْ) أي : بالنقض مع قرب العهد ، وذكر الميثاق (أَنْ يَحِلَ) أي يجب (عَلَيْكُمُ) بسبب عبادة العجل (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) المحسن إليكم ، أي : وكلا الأمرين لم يكن أما الأول فواضح ، وأما الثاني : فلا يظن بأحد إرادته ، والحاصل أنه يقول : فعلتم ما لا يفعله عاقل (فَأَخْلَفْتُمْ) أي : فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم (مَوْعِدِي) أي : وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله ، والقيام على ما أمركم به.
ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره ، فقال : (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي : بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا ، وأمرنا ولم يسوّل لنا السامري لما أخلفناه ، واختلف في هذا المجيب على وجهين :
الأول : هم الذين لم يعبدوا العجل ، فكأنهم قالوا : (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي : بأمر كنا نملكه ، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة ، ٥٠] ، (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة ، ٧٢] ، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم ، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل ، فلم نقدر على منعهم عنه ، ولم نقدر أيضا على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سببا لوقوع النفرة ، وزيادة الفتنة.
الثاني : أن هذا قول عبدة العجل ، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة ، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل : كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة؟ أجيب : بأنّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم ، وحمزة والكسائي بضمها ، والباقون بكسرها ، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء ، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل ، فقالوا : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة ، وأبو عمرو وشعبة
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.