ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم ، فناداهم بقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى ، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة ، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية ، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله : (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ،) فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيرا من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة ، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي : الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم ، وهو جانبه الذي يلي البحر ، وناحية مكة واليمن ، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتابا فيه بيان دينهم ، وشرح شريعتهم.
ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ) بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم (الْمَنَ) أي : الترنجبين (وَالسَّلْوى) أي : الطير السماني بتخفيف الميم والقصر.
وقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أمر إباحة إن فسر الطيب باللذيذ ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة ، وإن فسر بالحلال ؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم ، ولم تمسه يد الآدميين ، فهو أمر إيجاب ، وقرأ حمزة والكسائي (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ وَواعَدْناكُمْ ما رَزَقْناكُمْ) بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا ، وبعد الدال من وعدنا ، وبعد القاف من رزقنا ، ولا ألف في الثلاثة ، والباقون بالنون ، وألف بعدها في الثلاثة ، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا ، وأثبتها الباقون ، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره ، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين ، وقرأ الكسائي (فَيَحِلَ) بضم الحاء ، أي : ينزل ، والباقون بكسرها ، أي : يجب (عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي : عقوبتي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي : هلك ، وقيل : شقي ، وقيل : وقع في الهاوية ، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى ، وكسرها الباقون ، ولما كان الإنسان محل الزلل ، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) أي : ستار بإسبال ذيل العفو (لِمَنْ تابَ) أي : رجع عن ذنوبه من الشرك ، وما يقاربه (وَآمَنَ) بكل ما يجب الإيمان به (وَعَمِلَ صالِحاً) تصديقا لإيمانه (ثُمَّ اهْتَدى) باستمراره على ذلك إلى موته.
فائدة : اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافرا وغفورا وغفارا ، وبأن له غفرانا ومغفرة ، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر ، أمّا وصف كونه غافرا ، فقوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ) [غافر ، ٣] وأما كونه غفورا ، فقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) [الكهف ، ٥٨] وأما كونه غفارا ، فقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ ،) وأما الغفران ، فقوله تعالى : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) [البقرة ، ٢٨٥] ، وأما المغفرة ، فقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) [الرعد ، ٦] ، وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود : (فَغَفَرْنا لَهُ) [ص ، ٢٥] ، وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ، ٤٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر ، ٥٣] وقوله تعالى في حق نبينا صلىاللهعليهوسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ، ٢] ، وأما لفظ الاستغفار ، فقوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [هود ، ٣] ، (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى ، ٥]