حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم ، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم (فَاضْرِبْ) أي : اجعل (لَهُمْ) بالضرب بعصاك (طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ) والمراد بالطريق الجنس ، فإنه كان لكل سبط طريق ، وقوله : (يَبَساً) صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه ؛ لأنه لم يكن يبسا إلا بعد أن مرت عليه الصبا ، فجففته كما روي ، وقيل : في الأصل مصدر وصف به مبالغة ، وقيل : جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة ، فلما امتثل ما أمر به ، وأيبس الله تعالى له الأرض ، وأراد المرور بها قال الله تعالى له : (لا تَخافُ دَرَكاً) أي : أن يدركك فرعون (وَلا تَخْشى) غرقا وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الخاء على أن يكون نهيا مستأنفا ، والباقون برفع الفاء ، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف ، فلا محل له من الإعراب ، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب ، أي : اضرب غير خائف.
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أي : وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم وعزتهم ، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه ، والمتبوع بنو اسرائيل ، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل ، فأخبر فرعون بذلك ، فقص أثرهم ، والمعنى : فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده ، فحذف المفعول الثاني ، وقيل : إن الباء زائدة (فَغَشِيَهُمْ) أي : فرعون وقومه (مِنَ الْيَمِ) أي : البحر (ما غَشِيَهُمْ) أي : أمر لا تحتمل العقول وصفه ، فأهلكهم وقطع دابرهم ، ولم يبق منهم أحدا وما شاك أحدا من عبادنا المستضعفين شوكة.
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) أي : بدعائهم إلى عبادته (وَما هَدى) أي : ما أرشدهم ، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر ، ٢٩].
تنبيه : لا بأس بذكر شيء من هذه القصة ، فنقول : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر ، وكان بنو اسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه ، فخرج بهم ليلا ، وكان يوسف عليه الصلاة والسّلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر ، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم فأخذوه ، وقال موسى للعجوز : احتكمي ، أي : انظري لك شيئا اطلبيه ، فقالت : أكون معك في الجنة ، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب ، فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هنا أمرت ، فأوحى الله تعالى إليه أن (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه فانفلق ، فقال لهم موسى : ادخلوا فيه ، فقالوا : كيف وهي رطبة؟ فدعا ربه فهبت عليها الصبا فجفت ، فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا ، فجعل بينهم كوى يرى بعضهم بعضا ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر ، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق ، فقال له قومه : إن موسى قد سحر البحر كما ترى ، وكان على فرس حصان ، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، فسار جبريل بين يدي فرعون ، فأبصر الحصان الفرس ، فاقتحم بفرعون على أثرها ، فصاحت الملائكة في الناس : الحقوا حتى إذا لحق آخرهم ، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم ، فغرقوا ، فرجع بنو اسرائيل حتى ينظروا إليهم ، وقالوا : يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فلفظهم البحر إلى الساحل ، وأصابوا من سلاحهم ، وذكر ابن عباس أن جبريل قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب ، فهذا معنى قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ.)