سحرهم لعظمه (إِنَّكَ أَنْتَ) خاصة (الْأَعْلى) أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أبهمه ، ولم يقل : عصاك تحقيرا لها ؛ أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الذي في يدك ، أو تعظيما لها أي : لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها ، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي : العصا ، وهي التي قلنا لك أول ما شرّفناك بالمناجاة : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه ، ١٧] ، ثم أريناك منها ما أريناك (تَلْقَفْ) أي : تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك (ما صَنَعُوا) أي : فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة ، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم ، ثم أخذت تزداد عظما حتى ملأت الوادي ، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية ، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعا ، فصاح بموسى فأخذها ، فإذا هي عصا كما كانت ، ونظرت السحرة ، فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئا إلا أكلته ، وعرفوا أنه ليس بسحر ، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين ، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا ، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب ، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف ، والباقون بسكونها ، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته (إِنَّما) أي : الذي (صَنَعُوا) أي : زوّروا وافتعلوا وهالك أمره (كَيْدُ ساحِرٍ) أي : كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين ، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة ، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم : علم فقه ، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
فإن قيل : لم وحد الساحر ولم يجمع؟ أجيب : بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد ، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس (حَيْثُ أَتى) أي : كيفما سار ، وقال ابن عباس : لا يسعد حيث كان ، وقيل : معناه حيث احتال ، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له.
فإن قيل : لم نكر أولا ، ثم عرف ثانيا؟ أجيب بأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه ، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ ، ثم إنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا ، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئا كثيرا ، فعلم كل من رأى ذلك حقيته ، وبطلان ما فعل السحرة ، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه ، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى ، وحذف ذكر الإلقاء ، وما سببه من التلقف ؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية.
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ) أي : فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة ، وبأيسر أمر (سُجَّداً) على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغبانا لفرعون بسجودهم ، وتعظيما لما رأوا ، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر ، فلما رأوا فعل موسى خارجا عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة ، ويقال : قال رئيسهم : كنا نغلب الناس بالسحر ، وكانت الآلات تبقى علينا ، فلو كان هذا سحرا ، فأين الذي ألقيناه ، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر ، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا ، وأتوا