بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود ؛ قال الأصبهاني : سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين ، فكأن قائلا قال : هذا فعلهم ، فماذا قالوا؟ فقيل : (قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ولم يقولوا : آمنا برب العالمين ؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات ، ٢٤] والإلهية في قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ، ٣٨] ، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري ، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة ، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره ، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون ، وذكر هارون على الاستتباع وقيل : قدموه لكبر سنه ، أو لرويّ الآية ، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية ، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، وعن عكرمة لما خرّوا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة ، فكأنه قيل : ما قال لهم فرعون حينئذ؟ فقيل :
(قالَ) لهم : (آمَنْتُمْ) أي : بالله (لَهُ) أي : مصدّقين أو متبعين لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) في ذلك ، قال ذلك إيهاما بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن ، ثم استأنف قوله معلما مخيلا لاتباعه صدا لهم عن الاقتداء بالسحرة (إِنَّهُ) أي : موسى (لَكَبِيرُكُمُ) أي : معلمكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي : فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتكم شيئا من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن ، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة ، فقال مقسما : (فَلَأُقَطِّعَنَ) أي : بسبب ما فعلتم (أَيْدِيَكُمْ) على سبيل التوزيع (وَأَرْجُلَكُمْ) أي : من كل رجل يدا ورجلا ، وقوله : (مِنْ خِلافٍ) حال يعني مختلفة ، أي : الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه ، فقال : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) تشنيعا لقتلكم وردعا لأمثالكم (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) يريد نفسه لعنه الله وموسى بدليل قوله : (آمَنْتُمْ لَهُ ،) واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله ؛ كقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة ، ٦١] ، وفيه تبجح باقتداره وقهره ، وما ألفه وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، وتوضيع لموسى ، واستضعاف له مع الهزء به ؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
وقيل : يريد رب موسى الذي آمنوا به (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي : أدوم على مخالفته فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية ، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها ، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ، ويستهزىء بموسي في قوله : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى؟) أجيب : بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجا لأمره ، قال الرازي : ومن استقرأ أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء ، ومما يدل على معاندته قوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة ، وما لقيهم ، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو ، وكيف حصل ذلك العلم ، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء ، ثم كأنه قيل فما قالوا له؟ فقيل :