يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه ، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) قال الكلبي : قالوا سرا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقال محمد بن إسحاق : لما قال لهم موسى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ،) قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر ، وبالغوا في إخفاء ذلك ، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك ، فكأنه قيل : ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل :
(قالُوا) أي السحرة : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) أي : موسى وهارون ، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من (إِنْ ،) وشدّدها الباقون ، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال ، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازما في كل حال ، قال أبو حيان : وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب ، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة ، وقال شاعرهم (١) :
تزوّد مني بين أذناه ضربة
يريد أذنيه ، وقال آخر (٢) :
إن أباها وأبا أباها |
|
قد بلغا في المجد غايتاها |
وقيل : تقدير الآية أنه هذان ، فحذف الهاء ، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم ، أي : نعم هذان ، روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه ، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إنّ وصاحبها ، أي : نعم ، وشدّد ابن كثير النون ، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام ، وتزويره خوفا من غلبتهما ، وتثبيطا للناس عن اتباع موسى وهارون (يُرِيدانِ) أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها (أَنْ يُخْرِجاكُمْ) أيها الناس (مِنْ أَرْضِكُمْ) هذه التي ألفتموها ، وهي وطنكم خلفا عن سلف (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) مؤنث الأمثل ، وهو الأفضل ، أي : بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه ، وإعلاء دينه لقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) [غافر ، ٢٦] ، وقيل : أراد أهل طريقتكم ، وهم بنو اسرائيل ، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى : (أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء ، ١٧] وقيل : الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي : من السحر وغيره ، فلا تدعوا منه شيئا إلا جئتم به ، وقرأ أبو عمرو
__________________
(١) يروى البيت بتمامه :
تزّود منّا بين أذناه طعنة |
|
دعته إلى هابي التراب عقيم |
والبيت من الطويل ، وهو لهوبر الحارثي في لسان العرب (صرع) ، (شظى) ، (هبا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٠٧ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٥٣ ، والدرر ١ / ١١٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٦١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢٨ ، ١٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٠.
(٢) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٦٨ ، وله أو لأبي النجم في الدرر ١ / ١٠٦ ، وشرح التصريح ١ / ٦٥ ، وله أو لرجل من بني الحارث في خزانة الأدب ٧ / ٤٥٥ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٤٦ ، والإنصاف ص ١٨.