ابن عباس : نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم ، وقيل : معنى سوى أي : سوى هذا المكان ، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح ، وقيل : المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي : بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) فإنه لا يطابقه.
تنبيه : يحتمل أنّ قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه : الأوّل : أنه جواب لقول فرعون : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) الثاني : وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها : أن قوله : (مَوْعِدُكُمْ) خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز ، فإذا جعلناه من موسى استقام الكلام واختلف في (يَوْمُ الزِّينَةِ) فقال مجاهد وقتادة : النيروز ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو يوم عاشوراء ، وقيل : كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة ، وقيل : يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم.
وبنى قوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ) للمفعول ؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين (النَّاسُ) أي :
يجتمعوا (ضُحًى) أي : وقت الضحوة ، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى ، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر ، وعرف المحق من المبطل ، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
(فَتَوَلَّى) أي : أعرض (فِرْعَوْنُ) عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي : مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى بجميع من يحصل بهم الكيد ، وهم السحرة حشرهم من كل فج ، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحرا ، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر ، وأمهر ما كانوا وأكثر (ثُمَّ أَتى) للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد ، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.
ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى : (قالَ لَهُمْ) أي : لأهل الكيد والعناد ، وهم السحرة وغيرهم (مُوسى) حين رأى اجتماعهم ناصحا لهم (وَيْلَكُمْ) يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته (لا تَفْتَرُوا) أي : لا تتعمدوا (عَلَى اللهِ كَذِباً) بإشراك أحد معه (فَيُسْحِتَكُمْ) قال مقاتل : يهلككم ، وقال قتادة : يستأصلكم (بِعَذابٍ) من عنده ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء ، وكسر الحاء من الإسحات ، وهو لغة نجد وتميم ، والباقون بفتحهما ، والسحت لغة الحجاز (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له ، فلم ينفعه.
(فَتَنازَعُوا) أي : تجاذب السحرة (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) لما سمعوا هذا الكلام علما منهم أنه لا