ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين ، فلما كان كل من الغصب والمسكنة سبب الفعل قدمها على الغصب إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين.
ثم شرع في تأويل المسألة الثانية بقوله : (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتلته (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) التثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب المذكر وهو شائع ومثله العمران ، قيل : إن ذلك الغلام كان بالغا وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير سببا لوقوعهما في الفسق وربما قاد ذلك الفسق إلى الكفر ، وقيل : إنه كان صبيا إلا أنه علم منه أنه لو صار بالغا لحصلت فيه هذه المفاسد ، وفي الحديث «أنه طبع كافرا ولو عاش لأرهقهما» (١) ذلك كما قال (فَخَشِينا) أي : خفنا ، والخشية خوف يشوبه تعظيم (أَنْ يُرْهِقَهُما) أي : يغشيهما ويلحقهما (طُغْياناً وَكُفْراً) أي : لمحبتهما له يتبعانه في ذلك فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان بمثل ذلك؟ أجيب : بأنه إذا تأكد ذلك بوحي من الله تعالى جاز ، وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله أي : كيف قتل الخضر الغلام ، وقد نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن قتل الولدان فكتب إليه : «إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل». رواه بمعناه مسلم.
ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد تسبب عنه قوله : (فَأَرَدْنا) أي : بقتله وإراحتهما من شره (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) أي : المحسن إليهما بإعطائه وأخذه ، قال مطرف : فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض كل امرىء بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله تعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ولهذا أبدلهما الله تعالى (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي : طهارة وبركة من الذنوب والأخلاق الرديئة وصلاحا وتقوى (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي : رحمة وعطفا عليهما ، وقيل : هو من الرحم والقرابة ، قال قتادة : أي : أوصل للرحم وأبرّ للوالدين ، قال الكلبي : أبدلهما الله تعالى جارية فتزوجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمّة من الأمم ، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : أبدلهما الله تعالى جارية ولدت سبعين نبيا ، وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام مسلم ، وقرأ نافع وأبو عمرو (أَنْ يُبْدِلَهُما) بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال ، وقرأ ابن عامر (رُحْماً) برفع الحاء والباقون بالسكون.
ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله : (وَأَمَّا الْجِدارُ) أي : الذي أشرت بأخذ الأجر عليه (فَكانَ لِغُلامَيْنِ) ودل على كونهما دون البلوغ بقوله : (يَتِيمَيْنِ) وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريما. ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولا أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة ، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال : (فِي الْمَدِينَةِ) فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال ، (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) فلذلك أقمته احتسابا ، واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كان ذهبا وفضة» (٢) رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٤٠٠.