موسى قبل فراقي لك (بِتَأْوِيلِ) أي : بتفسير (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام مبنية على الظواهر كما قال صلىاللهعليهوسلم : «نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» (١) والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها ، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم ، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر ، ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئا بالمسألة الأولى بقوله :
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢))
(أَمَّا السَّفِينَةُ) أي : التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) عشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أي : يؤاجرون ويكتسبون ، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي : أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحا أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي : أمامهم كقوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) [المؤمنون ، ١٠٠] وقيل : خلفهم ، وكان طريقهم في رجوعهم عليه (مَلِكٌ) كان كافرا واسمه الجلندي ، وقال محمد بن إسحاق : اسمه سولة بن خليد الأزدي ، وقيل : اسمه هدد بن بدد (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي : صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به (غَصْباً) من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل : سدوها بقارورة وقيل : بالفار فإن قيل : قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدّم عليه؟ أجيب : بأن النية به التأخير وإنما قدم للعناية ولأنّ خوف الغصب
__________________
(١) أخرجه الشوكاني في الفوائد المجموعة ٢٠٠ ، وابن حجر في تلخيص الحبير ٤ / ١٩٢.