تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم ، ٢٣]. وقيل القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه يقال خلفه وهو في معنى الغيبة. قال صلىاللهعليهوسلم : «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال» (١) وراه الطبراني وغيره وردغة بسكون الدال وفتحها عصارة أهل النار. وقال الكميت (٢) :
ولا أرمي البريء بغير ذنب |
|
ولا اقفو الحواصن إن قفينا |
ببناء قفينا للمفعول والحواصن النساء العفائف واللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد.
تنبيه : يقال قفوت أثر فلان أقفوا إذا اتبعت أثره ، وسميت قافية الشعر قافية لأنّ البيت يقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقفاء الناس أو آثار أقدامهم ويستدلون بها على أحوال الناس. وقال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) [الحديد ، ٢٧] وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان فإن مشى يتبعه ويقفوه. فإن قيل : إنّ هذه الآية تدلّ على منع القياس فإنه لا يفيد إلا الظنّ والظنّ مغاير للعلم؟ أجيب : بأن ذلك عام دخله التخصيص فإنّ الحكم في الدين بمجرّد الظنّ جائز بإجماع الأمة وبأنّ المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعيا أم ظنيا واستعماله بهذا المعنى شائع ذائع وقد استعمل في مسائل كثيرة منها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ ، ومنها أنّ العمل بالشهادة عمل بالظنّ ، ومنها الاجتهاد في طلب القبلة ولا يفيد إلا الظنّ ، ومنها قيم المتلفات وأرش الجنايات لا سبيل إليهما إلا بالظنّ ، ومنها الفصد والحجامة وسائر المعالجات تبنى على الظنّ ، ومنها بعث الحكمين في الشقاق. قال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) [النساء ٣٥] وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم ، ومنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمنا مظنون وينبني على هذا الظنّ أحكام كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين ، ومنها الاعتماد على صدق الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون. وقال صلىاللهعليهوسلم : «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» (٣). وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر فبطل قول من يقول أنه لا يجوز بناء الأمر على الظنّ ، ثم علل تعالى النهي مخوّفا بقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ) وهما طريقا الإدراك (وَالْفُؤادَ) الذي هو آلة الإدراك ، ثم عوّل تعالى الأمر بقوله تعالى : (كُلُّ أُولئِكَ) أي : هذه الأشياء العظيمة العالية المنافع البديعة التكوين.
تنبيه : أولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقول الشاعر (٤) :
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الأقضية حديث ٣٥٩٧.
(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان الكميت ٢ / ١١٨.
(٣) أخرجه الشوكاني في الفوائد المجموعة ٢٠٠ ، وابن حجر في تلخيص الحبير ٤ / ١٩٢.
(٤) البيت من الكامل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٩٩٠ ، وفيه : «الأقوام» بدل : «الأيام» ، وتلخيص الشواهد ص ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٣٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٦٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أولى) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٧٢ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.