الثالث : قوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ مقتضية للثواب هو الإيمان فإن لم يوجد لم يحصل المشروط ، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية.
ثم إنه تعالى أخبر عند وجود هذه الشروط بقوله تعالى : (فَأُولئِكَ) أي : العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي : مقبولا مثابا عليه بالتضعيف وبعضهم يفتح له أبواب الدنيا مع ذلك كداود وسليمان عليهماالسلام ويستعمله فيها بما فيه مرضاة الله تعالى وبعضهم يزويها عنه كرامة له لا هوانا به فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده ، فالحاصل أنها إن وجدت عند الولي لم تشرفه وإن عدمت عنه لم تحقره ، وإنما التشريف وغيره عند الله تعالى بالأعمال.
تنبيه : كل من أتى بفعل إما أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا ، وإمّا أن يقصد به خيرات الآخرة ، وإمّا أن يقصد به مجموعهما ، وإمّا أن لا يقصد به واحدا منهما. فإن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية. وأمّا القسم الثالث فيقسم إلى ثلاثة أقسام : إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحا أو مرجوحا أو يكون الطلبان متعادلين ، فإن كان طلب الآخرة راجحا فهل يكون هذا العمل مقبولا عند الله تعالى؟ فيه رأيان :
أحدهما أنه غير مقبول لقوله صلىاللهعليهوسلم حاكيا عن الله تعالى أنه قال : «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» (١). وأيضا طلب رضوان الله إمّا أن يكون سببا مستقلا لكونه باعثا لهم على ذلك الفعل وداعيا إليه ، وإمّا أن لا يكون ، فإن كان الأوّل امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأنّ الحكم إذا أسند لسبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني فيكون الداعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله لأنّ المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب أن يكون مغايرا لطلب رضوان الله فوجب أن لا يكون مقبولا.
الرأي الثاني : أنه مقبول لأنّ طلب الآخرة لما كان راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فبقي القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولا ، وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحا فقد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكلية عن طلب الآخرة.
وأمّا القسم الرابع وهو الإقدام على الفعل من غير داع فهذا مبنّي على أنّ صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه يتوقف على حصول الداعي قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث.
ثم إنه تعالى قال : (كُلًّا) أي : من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة (نُمِدُّ) أي : بالعطاء ثم أبدل من كلا قوله تعالى (هؤُلاءِ) أي : الذين طلبوا الدنيا نمدّ (وَهَؤُلاءِ) أي : الذين طلبوا
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٢٦٣ ، ٢٧٦ ، ١٠ / ٦٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٦٩.