أي : بما لنا من القدرة التامّة الشاملة (مُتْرَفِيها) أي : منعميها الذين لهم الأمر والنهي قال الأكثرون : أمرهم الله تعالى بالطاعة والخير على لسان رسله (فَفَسَقُوا فِيها) أي : خرجوا عن طاعة الله ورسوله. وقال صاحب «الكشاف» : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أنّ هذا مجاز ، ومعناه أنه يفتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا. قال : والدليل على أنّ ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأنّ قوله ففسقوا يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة فكذا هنا لما قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني وخالفني فإنّ هذا كلام لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنّا نقول : إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فيكون كونها مأمورا بها مخالفا فلهذه الضرورة تركنا هذا الظاهر انتهى.
قال الرازي : ولقائل أن يقول كما أنّ قوله أمرته فعصاني يدل على أنّ المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله أمرته ففسق يدل على أنّ المأمور به غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان به فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به كما أنّ كونه معصية ينافي كونها مأمورا بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أنّ المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور ولم أدر لم أصرّ صاحب «الكشاف» على قوله مع ظهور فساده فثبت أنّ الحق ما ذكر الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عنادا وأقدموا على الفسق (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : الذي توعدناهم به على لسان رسولنا (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم ، وخص المترفين بالذكر لأنّ غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور ، وقيل معناه كثرنا وروى الطبراني وغيره حديثا : «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» (١) أي : كثيرة النتاج. والسكة بكسر السين وتشديد الكاف الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة الملقحة قال ذلك الجوهري. وروي أنّ رجلا من المشركين قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إني أرى أمرك هذا حقيرا؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنه سيأمر» (٢) أي : سيكثر وسيكبر. وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم دخل عليها فزعا يقول : «لا إلى إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت زينب قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث» (٣) أي : الشرّ. وويل يقال لمن وقع في مهلكة أو أشرف أن يقع فيها.
وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) أي : بما لنا من العظمة وبين مدلول كم بقوله تعالى : (مِنَ الْقُرُونِ) أي : المكذبين (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) كعاد وثمود من الأمم الماضية يخوّف به الكفار أي : كفار مكة قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن عشرون ومائة سنة. وقيل : مائة سنة. روي عن محمد بن
__________________
(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٢٥٨ ، وابن حجر في فتح الباري ٨ / ٣٩٥.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٦٦.
(٣) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٦ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٨٨٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٥٩٥٣.