يبين له ما يجب عليه فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليهالسلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهمالسلام في جميع الأمم قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) [النحل ، ٣٦]. وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر ، ٢٤] فإنّ دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت وعمت الأقطار واشتهرت. فإن قيل : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله تعالى وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستحقاقهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، وكفرهم لذلك لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان؟ أجيب : بأنّ بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف ، ١٧٢] ، فهلا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل ، وفي الآية دليل على أن لا وجوب قبل الشرع.
فائدة : في حكم أهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم وهم ثلاثة عشر قسما ؛ ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة ، فأمّا السعداء فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان يقول إذا سئل هل لهذا العالم إله؟ قال : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه ، وقسم ألقى في نفسه واطلع من كشفه على منزلة محمد صلىاللهعليهوسلم فآمن من به في عالم الغيب ، وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمة ، وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلىاللهعليهوسلم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء فقسم عطل لا عن نظر بل عن تقليد ، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن استقصاء بنظر ، وقسم أشرك عن تقليد محض ، وقسم علم الحق وعانده ، وأما الذي تحت المشيئة فقسم عطل فلم يقر بوجوده عن نظر قاصر لضعف في مزاجه ، وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه ، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن نظر بلغ فيه أقصى القوّة هكذا قسم محيي الدين بن عربي في الباب العاشر من الفتوحات المكية نقل ذلك عن شيخ وقته الشيخ عبد الوهاب الشعراني ، ونقل عن السيوطي أنّ أبوي النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ، ١٥] وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجيا ولا يعذب ويدخل الجنة. قال : وهذا مذهب لا خلاف فيه بين المحققين من أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول ، ونص على ذلك الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ، وتبعه على ذلك الأصحاب ، قال السيوطي : وقد ورد في الحديث أن الله تعالى أحيا أبويه حتى آمنا به ، وعلى ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وأبو القاسم بن عساكر وأبو حفص بن شاهين والسهيلي والقرطبي والطبري وابن المنير وابن سيد الناس وابن ناصر الدين الدمشقي والصفدي وغيرهم والأولى لنا الإمساك عن ذلك فإنّ الله تعالى لم يكلفنا بذلك ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى ، ونقول كما قال النووي لما سئل عن طائفة ابن عربي (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة ، ١٣٤].
ولما أشار تعالى إلى عذاب المخالفين قرّر أسبابه وعرف أنها بقدره وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب بقوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا) أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقييد باتباع رسلنا وإذا أردنا (أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) في الزمن المستقبل (أَمَرْنا)