حسيب نفسك. وقال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلّام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) فإن قيل : قد قال تعالى : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) فكيف الجمع في ذلك؟ أجيب : بأنّ المراد بالحسيب هنا الشهيد أي : كفى بشخصك اليوم شاهدا عليك أو أنّ القيامة مواقف مختلفة ففي موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط بهم وفي آخر يحاسبهم هو. وقوله تعالى :
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤))
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأنّ ثواب اهتدائه له لا ينجي غيره (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : إثمه عليها فلا يضرّ في ضلاله سواه ، كما قال الكلبي دلالة على أنّ العبد متمكن من الخير والشرّ وإنه غير مجبور على عمل بعينه أصلا لأنّ قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى) إلى آخره إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد ، أمّا المجبور على أحد الطرفين الممنوع عن الطرف الثاني فهذا لا يليق به ، هذا مذهب أهل السنة والجماعة فاتبعه ترشد ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنّ كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ) أي : نفس (وازِرَةٌ) أي : آثمة أي : لا تحمل (وِزْرَ) نفس (أُخْرى) بل إنما تحمل وزرها فقط. فإن قيل : ورد أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم فإذا لم يوف يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم؟ أجيب : بأنّ ذلك بسببه فهو كفعله. فإن قيل : قد ورد أن الميت ببكاء أهله؟ أجيب : بأنّ ذلك محمول على ما إذا أوصى بذلك وكان ذلك الفعل كقول طرفة بن العبد (١) :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله |
|
وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد |
وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل : ذنب الميت فيما إذا أوصى أو أمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه؟ أجيب : بأنّ الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده «من سن سنة سيئة» (٢) الخ وقال الشيخ أبو حامد : إنّ ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أهل الذنوب.
ثم قال تعالى : (وَما كُنَّا) أي : على ما لنا من القدرة (مُعَذِّبِينَ) أحدا (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص ٣٩ ، ولسان العرب (قوم).
(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢٦٧٥ ، وابن ماجه حديث ٢٠٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦١ ، ٣٦٢.