يبقى أحد منهم فهدأ أي : سكن. وقال الواحدي : فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني اسرائيل وخرب بيت المقدس. قال الرازي : أقوال التواريخ تشهد أنّ بختنصر كان قبل وقت عيسى ويحيى وزكريا بسنين متطاولة ، ومعلوم أنّ الملك الذي انتقم من اليهود ملك الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام انتهى.
ولما انقضى ذلك كان كأنه قيل هل بقي لهم نصرة على عدوّهم؟ فقال تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) يا بني اسرائيل بعد انتقامه منكم فترد الدولة إليكم ثم بعد أن أطمعهم فزعهم بقوله تعالى : (وَإِنْ عُدْتُمْ) أي : إلى المعصية (عُدْنا) أي : إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرّة أخرى. قال القفال : إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني اسرائيل : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) [الأعراف ، ١٦٧]. ثم قال وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب بمحمد صلىاللهعليهوسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله تعالى عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقي منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان ثم قال تعالى (وَجَعَلْنا) أي : بعد ذلك بعظمتنا (جَهَنَّمَ) أي : التي تلقى داخلها بالتجهيم والكراهة (لِلْكافِرِينَ) وذكر الوصف الظاهر موضع الضمير لبيان تعلق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم وقوله تعالى (حَصِيراً) يحتمل أن يكون فعيلا بمعنى الفاعل أي : جعلنا جهنم حاصرا لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعا محصورا لهم والمعنى أنّ عذاب الدنيا وإن كان شديدا قويا إلا أنه قد ينقلب بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص منه إمّا بالموت وإمّا بطريق آخر ، وأمّا عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرا للإنسان محيطا به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدا.
ولما بين سبحانه وتعالى كتاب موسى عليهالسلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدّة المتطاولة وجعله هدى لبني اسرائيل صادق الوعد والوعيد بين تعالى كتاب محمد صلىاللهعليهوسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيره إليه في ذلك ، ووصفه بثلاثة أنواع من الصفات :
الأولى قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) أي : الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس (يَهْدِي لِلَّتِي) أي : إلى الطريق التي (هِيَ أَقْوَمُ) أي : أصوب من كل طريق فقوله تعالى : (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) نعت لموصوف محذوف كما تقرّر ويصح أن يقدّر الملة والشريعة أي : يهدي إلى الملة والشريعة التي هي أقوم الملل والشرائع ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون ، ٩٦] وقيل إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله.
تنبيه : لفظ افعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي : الله الكبير وكقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان ، فأقوم يحتمل أن يكون كذلك وأن يبقى على ظاهره.
الصفة الثانية : قوله تعالى : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الراسخين في هذا الوصف ولهذا قيدهم بيانا لهم بقوله : (الَّذِينَ) أي : يصدّقون إيمانهم بأنهم (يَعْمَلُونَ) أي : على سبيل التجديد