المجتمعون للذهاب إلى العدوّ.
ولما حكى الله تعالى عنهم أنهم لما عصوا سلط الله عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة ، وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا الله فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصرّوا على المعصية فقد أساؤوا على أنفسهم وقد تقرّر في العقول أنّ الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأنّ الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أي : بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي : لأنّ ثوابها لها (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) بارتكاب المحرّمات والإفساد (فَلَها) أي : الإساءة لأنّ وبالها عليها. قال النحويون : وإنما قال : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) للتقابل ، والمعنى فإليها أو فعليها كما مرّ مع أنّ حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٤ ، ٥] أي : إليها.
تنبيه : قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله غالبة على غضبه بدليل أنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان ذكره مرّتين فقال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرّة واحدة فقال تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ولو لا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : ثانية في الإفساد وهو الوقت الذي حدّدنا له الانتقام فيه. (لِيَسُوؤُا) أي : بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا (وُجُوهَكُمْ) أي : بجعل آثار الإساءة بائنة فيها وحذف متعلق اللام لدلالة الأوّل عليه. وقرأ الكسائي بعد اللام بنون مفتوحة على التوحيد والضمير فيه لله والباقون بالياء مفتوحة ، وأمّا الهمزة التي بعد الواو والتي بعد السين فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بضم الهمزة ومدّها والباقون بفتح الهمزة ولا مدّ وقوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) عطف على ليسوءوا والمراد بالمسجد الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج وجعلناه محل عزكم وأمنكم ثم جعلناه محلا لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ، وهذا تعريض بتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا بدل الله أمنهم في الحرم خوفا وعزهم ذلا ، وأدخل عليهم جنودا لا قبل لهم بها ، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبيّ الكريم صلىاللهعليهوسلم (كَما دَخَلُوهُ) أي : الأعداء (أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالسيف ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة (وَلِيُتَبِّرُوا) أي : يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق (ما عَلَوْا) أي : عليه من ذلك وقيل ما مصدرية أي : مدّة علوهم (تَتْبِيراً) أي : إهلاكا. قال الزجاج : وكل شيء جعلته مكسرا مفتتا فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج ، وتبر الذهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف ، ١٣٩]. قال الرازي : وهذه المرّة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهماالسلام. قال البيضاوي : وذلك بأن سلط عليهم الفرس مرّة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه حردون ، وقيل جردوس ، قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم جمع قربان فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، ثم قال : يا يحيى أي : خطابا لدمه قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله قبل أن لا