والاستمرار والبناء على العلم (الصَّالِحاتِ) من التقوى والإحسان (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) هو الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشدّدة. فإن قيل : قال هنا (أَجْراً كَبِيراً) وفي الكهف (أَجْراً حَسَناً) [الكهف ، ٢] أجيب : بوقوع ذلك لموافقة الفواصل قبل وبعد في كل منهما.
الصفة الثالثة قوله تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا) أي : أحضرنا وهيأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو النار في الآخرة وهو عطف على أنّ لهم أجرا كبيرا ، والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ، نظيره قولك بشرت زيدا بأنه سيعطى وبأنّ عدوّه سيمنع. فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟ أجيب : بأنّ هذا مذكور على سبيل التهكم أو أنه من باب إطلاق أحد الضدّين على الآخر كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ، ٤٠] أو على يبشر بإضمار يخبر. فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة؟ أجيب : بأنّ أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وبأنّ بعضهم قال : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة ، ٨٠] فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة.
ولما بين سبحانه وتعالى أنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، والإنسان قد يقدم على ما لا فائدة فيه بينه بقوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) عند ضجره على نفسه وأهله وماله (دُعاءَهُ) أي : مثل دعائه (بِالْخَيْرِ) ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. روي أنه صلىاللهعليهوسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئنّ في الليل فقالت له : ما لك؟ فبكى وشكا فرحمته فأرخت كتافه فهرب ، فلما أصبح النبيّ صلىاللهعليهوسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلىاللهعليهوسلم : «اللهمّ اقطع يدها» فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله تعالى يدها ، فندم النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقال : «اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضبون فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له» وقيل المراد النضر بن الحرث حيث قال : اللهمّ انصر خير الحزبين اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه وضربت رقبته يوم بدر صبرا. وكان بعضهم يقول : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت ، ٢٩] وآخرون يقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس ، ٤٨] وإنما فعلوا ذلك للجهل ولاعتقاد أنّ محمدا كاذب فيما يقول ، وقيل المراد أنّ الإنسان قد يبالغ في الدعاء طالبا لشيء قد يعتقد أنّ خيره فيه مع أنّ ذلك الشيء منبع لشرّه وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدّم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها ، كما قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ) أي : الجنس (عَجُولاً) أي : يسارع إلى كل ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبته وقيل المراد آدم عليهالسلام لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب لينهض فسقط.
تنبيه : حذفت واو ويدع أي : التي هي لام الفعل خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفها لفظا في العربية لكنها لما كانت لا تظهر في اللفظ حذفت في الخط ، ونظيره قوله تعالى : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق ، ١٨] و (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء ، ١٤٦] و (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) [ق ، ٤١](فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر ، ٥]. قال الفراء : ولو كان ذلك بالواو والياء لكان صوابا. وقال الرازي : أقول هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد عظم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإنّ إثبات الواو والياء في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتها في هذه المواضع المعدودة يدل على أنّ هذا القرآن نقل