المثبوت مجرى القسم فيكون لتفسدنّ جوابا له كأنه قال : وأقسمنا لتفسدنّ (فِي الْأَرْضِ) أي : أرض الشام قاله السيوطي. وقال الرازي : أرض مصر ويوافق الأوّل قول البقاعي أي : المقدّسة التي كأنها لشرفها هي الأرض. (مَرَّتَيْنِ) أي : إفسادتين. قال في «الكشاف» : أولاهما قتل زكريا عليهالسلام وحبس أرميا حين أنذرهم بسخط الله تعالى ، والأخرى قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم. وقال البيضاوي : الأولى مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا أو قتل أرميا. وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهمالسلام. (وَلَتَعْلُنَ) أي : بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم (عُلُوًّا كَبِيراً) بالظلم والتمرّد لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي : لا يدان لكم بهم كما قال تعالى : (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : أصحاب قوّة في الحرب. واختلف فيهم فقال في «الكشاف» : سنحاريب وجنوده ، وقيل بختنصر. وقال ابن عباس : جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفا. وقال البيضاوي : عبادا لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده ، وقيل : جالوت الحزري وهو بحاء فزاي : مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها ، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس. وذكر الرازي في ذلك قولين : الأوّل : أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه ، فبقوا هناك في الذل. الثاني : أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني اسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال : أفسدوا المرّة الأولى ، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر. وعن ابن مسعود قال : كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى. قاله الرازي. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواما فقتلوهم وأفنوهم.
ثم قال الله تعالى : (فَجاسُوا) أي : تردّدوا لطلبكم (خِلالَ الدِّيارِ) أي : وسطها للقتل والغارة. قال البيضاوي : فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد ، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى. وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه» : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عزوجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام ، ١٢٩]. (وَكانَ) أي : ذلك البعث ووعد العقاب به (وَعْداً مَفْعُولاً) أي : قضاء كائنا لازما لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل.
(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أي : الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) حتى تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الفساد في زمن داود بقتله جالوت وذلك بعد مائة سنة (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ) تستعينون بها على قتال عدوّكم (وَبَنِينَ) تتقوّون بهم (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ) من عدوّكم (نَفِيراً) أي : عشيرة تنفر معكم عند إرادة القتال وغيره من المهمات والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل : جمع نفر ، وهم