السّلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى ، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين ، فذكر الإسراء أوّلا دليل على حذف مثله أوّلا فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقادا وعبادة بقوله تعالى : (أَلَّا) أي : لئلا يتخذوا على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة ، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن افعل كذا. (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي : ربّا تكلون إليه أموركم ، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقا في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى ، فإن نطق نطق بذكر الله ، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله ، فيكون كله لله وبالله وإلى الله.
وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ) نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي : يا ذرّية (مَنْ حَمَلْنا) أي : في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى : (مَعَ نُوحٍ) ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة : الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث ، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي : لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثا على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي : مبالغا في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة والسّلام كان إذا أكل قال : «الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني» (١) وفي رواية «أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه» (٢). وفي رواية أنه كان يقول : «الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه» (٣). وفي رواية : أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجا آثره به.
ولما ذكر تعالى إنعامه على بني اسرائيل بإنزال التوراة عليهم ، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى : (وَقَضَيْنا) أي : أوحينا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : إلى بني عبدنا يعقوب عليهالسلام الذي كان أطوع أهل زمانه وحيا مقطوعا مثبوتا (فِي الْكِتابِ) أي : التوارة التي قد أوصلناها إليهم على لسان موسى عليهالسلام وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : (لَتُفْسِدُنَ) جواب قسم محذوف ويجوز أن يجري القضاء
__________________
(١) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٢٩.
(٢) أخرجه بنحوه ابن الجوزي في العلل المتناهية ٢ / ١٩١.
(٣) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ٣٤٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٧٨٧٧.