التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخا بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء ، وقيل : طائر أصابه السهم فقال : كفيت إله السماء ، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم ، فتسفلت النسور ، وهبطت إلى الأرض ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ ،) أي : من القوّة والضخامة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قال الرازي : ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا ، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل : حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة ، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية ، والتقدير على القراءة الأولى : وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال ، وقيل : أن نافية واللام لتأكيد النفي.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) الخطاب له صلىاللهعليهوسلم والمراد منه أمّته (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر ، ٥١]. وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ، ٢١]. فإن قيل : هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل؟ أجيب : بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ، ٩] ثم قال : رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ (إِنَّ اللهَ ،) أي : ذو الجلال والإكرام (عَزِيزٌ ،) أي : غالب يقدر ولا يقدر عليه (ذُو انتِقامٍ ،) أي : ممن عصاه.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) بدل من يوم يأتيهم ، أو ظرف للانتقام ، والمعنى : يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غير هذه المعروفة ، وقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ) عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات ، والتبديل التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير ، ومنه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء ، ٥٦](وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ ، ١٦]. وفي الأوصاف كقولك : بدلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، ومنه قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان ، ٧٠] والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض ، وإنما تغير أوصافها ، وأنشد (١) :
وما الناس بالناس الذين عهدتهم |
|
ولا الدار بالدار التي كنت تعلم |
تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها ، وتفجر بحارها ، وتستوي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وتبدل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها وكونها أبوابا ، ويدلّ لذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد» (٢) أخرجاه في الصحيحين ، العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى حمرة ، ولهذا شبهها بقرصة النقاء ، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه
__________________
(١) البيت من بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٢ / ٥٣١.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢١ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٩٠.