القبور. قال الرازي : والأوّل أولى.
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمد ، أي : خوّفهم يوم القيامة وهو قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ،) أي : الذي تقدّم ذكره ، وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ،) أي : كفروا (رَبَّنا أَخِّرْنا ،) أي : بأن تردّنا إلى الدنيا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد واحد من الزمان قريب (نُجِبْ دَعْوَتَكَ ،) أي : بالتوحيد ونتدارك ما فرّطنا فيه (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما يدعوننا إليه ، فيقال لهم توبيخا : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ ،) أي : حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (ما لَكُمْ) وأكد النفي بقوله : (مِنْ زَوالٍ ،) أي : ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور كما قال في آية أخرى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل ، ٣٨] وكانوا يقولون : لا زوال لنا من هذه الحياة إلى الحياة أخرى ، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة ، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت ، أو عن شباب إلى هرم ، أو عن غنى إلى فقر.
ثم إنه تعالى زادهم توبيخا آخر بقوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ) في الدنيا (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر من الأمم السابقة (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ،) أي : وظهر لكم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، وما تواتر عندكم من أخبارهم (وَضَرَبْنا ،) أي : وبينا (لَكُمُ الْأَمْثالَ) في القرآن أنّ عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال ، مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل ، وذلك في كتاب الله تعالى كثير.
ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى :
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ،) أي : الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه : الأوّل : أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. والثاني : إلى قوم محمد صلىاللهعليهوسلم بدليل قوله تعالى : (وَأَنْذِرِ ،) أي : يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم ، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال ، ٣٠]. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ،) أي : ومكتوب عند الله فعلهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.
وقيل : إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلىاللهعليهوسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال. وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ : إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء ، فأعلم ما فيها ، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتا ، وجعل له بابا من أعلاه وبابا من أسفله ، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور ، وكان قد جوّعها ، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت ، عصيا أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت ، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ الهواء ، فطارت يوما حتى أبعدت في الهواء ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأسفل ، وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال : فطارت النسور ، يوما آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، ففتح فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل ، فإذا الأرض سوداء مظلمة ، ونودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة : كان معه في