تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال : (وَيَضْرِبُ اللهُ ،) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ،) أي : يتعظون ، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام ، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية ، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب.
ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظل وقيل : الثوم ، وقيل : الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري : نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر (١) :
هي الكشوث لا أصل ولا ورق |
|
ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر |
وقيل شجرة الشوك (اجْتُثَّتْ ،) أي : استؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ،) أي : عروقها قريبة منه (ما لَها مِنْ قَرارٍ ،) أي : أصل ولا عرق ، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في (كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ؟) فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة.
ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أنه تعالى يثبتهم بها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ،) أي : في القبر ، وقيل : قبل الموت (وَفِي الْآخِرَةِ ،) أي : يوم القيامة عند البعث والحساب ، وقيل : في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ،) أي : الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ،) أي : إن شاء هدى ، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ»)(٢). وروي عن أنس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلىاللهعليهوسلم؟ فأمّا المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : فيراهما جميعا» قال قتادة : ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال : «وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال : ما دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» (٣). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : شهدنا جنازة مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال : «إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر ، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال : كنت أعبد الله ونبيي محمد صلىاللهعليهوسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (كشث) ، وتاج العروس (كشث).
(٢) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٨ / ٣٧٨ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ١٢٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٢٤٩٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٧٨ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٤١٣.
(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٧٠ ، و ٧٢ ، وأبو داود حديث ٣٢٣١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٢٦ ، ٢٣٣.