الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج ، ٤٧] ثم يجيبهم بقوله : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ.) فلما أيسوا مما عنده ، قال بعضهم لبعض ذلك.
ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ) الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ،) أي : أحكم وفرغ منه ، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه ، فيقوم فيهم خطيبا. قال مقاتل : يوضع له منبر من نار ، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه ، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ،) أي : بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم (وَوَعَدْتُكُمْ ،) أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب (فَأَخْلَفْتُكُمْ ،) أي : الوعد ، فلم أقل شيئا إلا كان زيفا ، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم ، وتركتم ربكم وهو وليكم.
تنبيه : في الآية إضمار من وجهين : الأوّل : أنّ التقدير : إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره ، ووعدتكم فأخلفتكم ، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها ، وليس وراء العيان بيان ؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف ، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.
الثاني : أنّ قوله : (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الوعد يقتضي مفعولا ثانيا ، وحذف هذا للعلم به ، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر ، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ،) أي : سلطان ، فمن مزيدة ، أي : قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي ، وألجئكم على متابعتي وقوله : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع ، قال النحويون : لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان ، فمعناه : لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) محكمين الشهوات ؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى.)
قال الرازي : وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا ههنا استثناء حقيقي ، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر ، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم : (فَلا تَلُومُونِي ،) أي : لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ؛) لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل ، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ ، ولا تسمعوا قولي ، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.
فإن قيل : لم قال الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي) وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟ أجيب : بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ،) أي : بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب ، فأزيل صراخكم منه. (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ،) أي : بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد ، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في التقاء الساكنين ؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة ، وياء المتكلم